الحب في زمن الأندلس - محمود حامد - كبسولة حضارة
بقلم: محمود حامد
أميرة مُدللة يهواها الجميع لاسيما وأنها صاحبة لسان شعري، وقع قلبها في الأسر لقلب أحد الشعراء المخضرمين حينها، من أجله كتب قلمها ونطق لسانها بأعذب الكلمات من أجله، وسطر التاريخ قصة حبهما في الكثير من المسرحيات والكتب، كانت نابغة عصرها..
إنها الشاعرة الأميرة : ولادة بنت المستكفي.
فما قصتها التي سطرها التاريخ وظلت علامة باقية إلى يومنا؟
ولادة هي واحدة من أشهر نساء الأندلس ، وإحدى الأميرات من بني أمية ، وهي واحدة من النساء النابغات في الشعر وفنون القول ، تبوأت مكانة عالية في مجتمعها ، وحازت صيتًا واسعًا بسبب ثقافتها ، وجمالها وفتنتها وزينتها ، تميزت الأميرة بتحررها ، ظلت فكرة رفعها للحجاب والتحرر منه تراودها لكنها أقدمت عليها بعد وفاة والدها، كانت تقيم ندوة في منزلها يحضرها الشعراء والأدباء ومنهم ابن زيدون الحبيب ، فبادلته حبا بحب.وهي سليلة بيت ملك إذ أنها بنت الخليفة الأموي محمد بن عبيد الله بن الناصر لدين الله الملقب بالمستكفي بالله، فلما مات أبوها خرجت إلى مجامع الأدباء و العلماء.
ابن زيدون هو الآخر ولد بقرطبة سنة 394هـ/1003م. واسمه : أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي، ويعد ابن زيدون واحداً من أهم شعراء الأندلس في عصره. كانت له مكانة كبيرة في عصره لقد أنفق في سبيل تعليمه الكثير من الاموال، ووهبه الله من موهبة الشعر الكثير.
نبغ في الشعر مبكراً كان في سن يقارب العشرين، بداية نبوغه حين ألقى مرثية على قبر الفقية ابن ذكوان.
ابن زيدون عشقها وطلب رؤيتها على عزلة كثيراً ونادى بذلك جهراً، فكتبت له:
ترقـّب إذا جــنّ الـظـلام زيارتــي
فإنّي رأيــت الليل أكـتـم للـســرِّ
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح
وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
رحلة الحب بينهما لم تدم طويلاً ودب زلزال الفراق بينهما، روي أنه ذات مرة أثناء وجوده في حديقة قصرها شاهد جاريتها فافتتن بسحر جمالها، فغضبت ولادة بنت المستكفي عليه وأمرت بدخوله السجن وأنشدت أبياتاً من الشعر تقول :
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا
لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمـرا بجمـاله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر
كانت ولادة شديدة الجمال هي غصن لشجرة مازالت في ريعان شبابها، تحررها من التقاليد ومجالسة الشعراء والكتاب جعلها مطمعاً للكثير منهم، وقد قال بعض المؤرخين أن سبب انفصالها عن ابن زيدون شخص تمناها لنفسه يُدعى: أبو عامر بن عبدوس، تُيم عشقاً فيها، أرادها لنفسه، أصابته الغيرة من ابن زيدون بعد أن رأى الود بينهما، ولما علم ابن زيدون بذلك كتب إليه خطاباً على لسان ولادة يسخر فيه منه، وذاعت الرسالة في قرطبة وتناقلها الناس واعتبروها من روائع الأدب العربي، بدأها بقوله:
“أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العائر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فإن العُجْب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب… ”.
وقيل أن سبب دخوله السجن هي تلك الرسالة التي جعلت ابن عبدوس يدبر له تهمة ومكيدة أدخله بها إلى السجن، لكن ابن زيدون استطاع الفرار من حبسه.
وهرب من السجن وعاش شريداً في قرطبة، عاش محطم القلب يتمنى أن يراها ولو لحظة لكن ليت ما يتمنى المرء يدركه..
فلم يجد غير الشعر كي يعبر عن معاناته فكتب لها النونية، وهي من أروع ما كُتب في الأندلس، قال فيها :
أضْحَى التَّنَائِـي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا
وَنَا بَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا
ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا
حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِيـنـا
مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِـهـم
حُزناً مع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
قرأت ولادة رسالته الشعرية، لكنها لم تجبه فقد تحطم قلبها بعد أن عشقته حد العشق، ولنا في التاريخ الأندلسي حكايات لا تنسى ونختم بأبدع ما قالا:
كتبت ولادة:
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكانِ
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
و كتب ابن زيدون:
يا من غدوت به في الناس مشتهرا
قلبي يقاسي عليكم الهم و الفكر
ايا من إن غبت لم ألقَ إنسانًا يؤانسي
وان حضرت فكلُّ الناس قدْ حَضَرا
تلك الأبيات تم تدشينها على نصب تذكاري تخليداً لقصة الحب بينهما، وسمي “نُصب الحُب”، وفيه كفان كادا أن يلتقيان ويتلامسان، يحاكيان يد الشاعرة “ولادة بنت المستكفي” و يد حبيبها الشاعر “ابن زيدون”.
ودمتم..
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا