أنشودة سَوْدان - إيمان صلاح الدين - كبسولة حضارة
بقلم: إيمان صلاح الدين
إن كنت مثلي غير مغرمٍ بالتاريخ وصنعته، بالتأكيد ستحبه وتتلصص عليه كما فعلت أنا، بعد هذه الرواية.
عندما انتهيت من تلك الملحمة التاريخية الفذة لصاحبها العبقري إبراهيم أحمد عيسى أحسست بروح غير الروح وعقل غير العقل، تاريخنا الإسلامي الحقيقي الذي نجهله لقلة المصادر وندرتها، استطاع أديبنا الفذ نسجه في رواية محكمة، تاريخ إمارة باري التي تقع في جنوب إيطاليا تلك الإمارة التي حكمها المسلمون لما يقرب من ربع قرن من الزمان في عهد ضعف الدولة العباسية.
إنك أمام ملحمة حقيقية أحداثها ليست خيالية، تذكرنا بالأفلام الملحمية الأمريكية ولكن الفرق أن ملحمتنا حقيقة عن تاريخ واقعي مشرف، وأفلامهم محض خيال يشتهي التاريخ والشرف.
اللغة في الرواية عالية جدًا وألفاظها جزلة، تأخذك بشكل انسيابي يتوافق مع الوصف الرائع والدقيق، ولنقول أن الوصف في هذه الرواية حري به أن يُدرس في تكنيك السرد الحديث..
الشخصيات وبناؤها يؤكد أنك أمام روائي بارع قادر على بناء تركيبات الشخصيات وتعقيداتها النفسية والشعورية، وقد لفت نظري أن لكل شخصية سمتها الخاص، فتستطيع أن تتنبأ بالمتحدث دون أن تعلم هويته، لم يقع أديبنا في فخ المثالية الواهية التي يقع فيها كُتاب الملحميات، بل ببساطة أثبت أن أبطالنا جميعم بشر يصيبون ويخطئون، يقعون في فخ الهوى والعشق رغم إيمانهم وتدينهم، يقيمون الحروب لأجل الحب، ويبرمون السلام لأجل اتقاء فراق المحبوب..
خطان دراميان تسير فيهما أحداث الرواية، خط الحب مخلوطا بالحرب، يلتقيان ويتشابكان طيلة الرواية..
وصف المعارك كان دقيقًا ورائعًا يشعرك وكأنك أمام مشاهد حية تدور أمامك لدرجة تجعلك تشمئز من رائحة التراب والدم، وتنحني أحيانا مع انحناء المحاربين!
وصف تفشي الطاعون في نابولي كان رائعًا أيضًا ومن أروع ما رأيت في وصف بلد أصابه الوباء.
النهاية مأساوية تترك في نفسك أثرًا وجرحًا لا ينمدل على ماحل بالمسلمين وجيشهم..
((الحيوان في رواية باري))
امتاز أديبنا بجعل القاريء يرتبط نفسيًّا بالحيوان طيلة الرواية، ففي أول الرواية ظبية تأخذ لُبك لدقة وروعة وصفها وإذا بها ينتهي بها الحال على مأدبة بطلنا سَودان،
ويصيبك الاشمئزاز والكره لكلب سبستيان الأجرب، وخنزير ماريا اللعين، وتتعاطف مع الهرة الهاربة من الكلب الكسول وتفرح بنجاتها منه، وأما عن فاكهة الرواية فهي الهِجان فرسة البطل البيضاء التي تتعلق بها نفسيًّا حد البكاء عند لحظة نفوقها، ولا يفوتنا وصف مشهد الأسود أمام أبي المغوار في حالة من التشويق والترقب والحزن على ذاك الليث الجريح الذي ينفق متأثرًا بجراحة في مشهد تراجيدي متقن.
انتهت رحلتي مع باري، ولكن لم تنتهي رحلتي مع تاريخ أبطالنا المسلمين.
شكرًا إبراهيم أحمد عيسى، على هذه الرحلة الممتعة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا