لسنا فراعنة- هشام فايز- كبسولة حضارة
بقلم: هشام فايز
ما نراه من الجمال والدقة والإبداع في التماثيل الفرعونية والمنحوتات والمعابد يُدعى فنا لا حضارة، لأن الحضارة ليست هي الفن، فالفن موجود في كل أمة، وهبه الله كثيرا من خلقه حتى أشد القبائل بدائية لها منحوتات ورسوم وأغانٍ، وإبداع في النقش والحفر والبناء، بل إن الفن موجود لدى الحيوان! وقد كان للنازية الألمانية فن، وللفاشية الإيطالية فن، وللإسرائيليين فن، وللفرس والرومان، حتى الولايات المتحدة التي تبهرنا بفنها الرفيع في السينما والموسيقى والمؤثرات البصرية والتكنولوجيا قتلت ملايين الأبرياء في أفغانستان والعراق وغيرهما من البلاد، فهل هذه حضارة؟!
إن الحضارة تعني العدل والإحسان والرحمة والحرية والأدب ومكارم الأخلاق والعلم والتهذيب والتثقيف وكل ما أخرجته لنا الأديان والفلسفات من معاني الإنسانية، ودون هذه المعاني لا يجدي فن ولا تقدم تكنولوجي، الإنسانية وحدها هي الحضارة.
وقد سقطت الدولة الفرعونية كما سقطت أي دولة بُنيت على الفساد والاستبداد، وحكمت بالقهر والاستبداد، وبنت الصروح على أشلاء الإنسان، وهذه الأبنية الشاهقة لا تزال شاخصة تشهد على ذلك، وعلى كل ما في تلك الحقبة من الظلم والتهميش والقمع والاستبداد.
لست فرعونيا، ولا يشرفني أن أنتسب إلى أمة وثنية غرقت في ظلمات الجهل والتخلف، وأجبرت الإنسان- بما وهبه الله من كرامة- على أن يسجد للقطط والكلاب والأبقار، وقدست الطيور والزواحف والحشرات، وحكمت بالكهنوت والدجل والتضليل والخرافة، لتجبر الناس على عبادة الشمس أو القمر أو العجل والجعران.
ليسوا أجدادي، فأنا إنسان حر أفخر بكرامتي، أومن بالله الواحد الأحد خالق كل شيء، ولا أحنى رأسي لغيره، وكل ما سجد له الفراعنة- إلا الله- أومن أنه مخلوق وضيع خلقه الله لخدمتي وسخره لي.
أنا عربي، لا أفخر بذلك أيضا في ظل ما يمر به العرب من انتكاسات في الوعي والأخلاق، ولكني أقرأ وأكتب بالعربية، وأنتمي إلى الأمة العربية، ولن أقع في الفخ الذي وقع فيه كثير من العامة والمثقفين معا، حين ظنوا أنهم فراعنة، وخفي عليهم أن ذلك خداع غربي، أرادوا به أولا أن ينقسم المسلمون إلى عرب وغير عرب (أو إلى عرب وعثمانيين) حتى يقضوا على أي أمل لوحدة إسلامية، ثم بعد ذلك قسموا العرب إلى أعراق مندثرة ومختلفة (فراعنة وأمازيج وقبائل شبه الجزيرة وقبائل أفريقية)، وبذلك لا تقوم قائمة لنا ولا يكون لنا هوية توحدنا أو تجمعنا، مع أنهم أنفسهم لا يقولون نحن أحفاد الإغريق ولا أحفاد الرومان! بل صنعوا الاتحاد الأوروبي! وما زال بعض مدعي الثقافة والتنوير يرددون سخافات تنفي عنا عربيتنا وتثبت فرعونيتنا من أجل بعض الكلمات التي نعلمها الأطفال مثل (إمبو- تاتا تاتا- واوا)! ومثل هذه التخاريف كثير.
من أراد أن يثبت هويته الفرعونية فليقرأ لنا جدار أحد المعابد، أو يكتب لنا خطابا بالمصرية القديمة، أو يحدثنا بها إن استطاع، وإن تحدث بها فليجد مصريا واحدا يفهمه!
نحن عرب، هويتنا عربية، وحضارتنا عربية، لا تخلو من المثالب كأي أمة، ولكن لنا من التراث العربي ما يفوق حضارات كثيرة، وإن كان للفراعنة ثلاثة أهرام فلدينا في تراثنا مئات الأهرام العربية في الشعر والأدب والفنون والعلوم والفلسفة والفكر، وليس ذنبنا أن الجاهل لم يقرأ شيئا من هذا أو يطلع عليه.
نحن أمة عربية واحدة، مسلمين ومسيحيين، كما قال جبران (لم يقم في الأرض دين بعد طه والمسيح)، وهناك من يغري المسيحيين بالتبرؤ من عروبتهم بربط العروبة بالإسلام، العرب ليسوا هم المسلمين، هناك ما يقرب ملياريّ مسلم في شتى الدول، بينما العرب لا يجاوز عددهم 377 مليونا (بما يشمل غير المسلمين)، وقد شارك المسيحيون في الثقافة العربية ولم يجدوا حرجا في الانتساب إليها، وشعراء المهجر أكبر شاهد على ذلك، فقد أحبوا اللغة العربية واهتموا بقضاياها، واقرأ إن شئت قول نسيب عريضة:
كفّنوهُ.. وادفنوهُ.. أسكنوه.. هوَّةَ اللحد العميق
واذهبوا لا تندُبوه..
فهو شعبٌ.. ميتٌ ليس يُفيق
ذلّلوه قتَّلوهُ حمَّلوهُ.. فوق ما كان يُطيق
حمل الذّلَّ بصبر من دهورٍ.. فهو في الذّلِّ عَريق
هتكُ عرضٍ نهبُ أرضٍ شنقُ بعضٍ.. لم تُحرِّك غَضَبَه
فلماذا نَذرِفُ الدمع جُزافاً. ليس تَحيا الحطَبه
وقد حمل إيليا أبو ماضي هم القضية الفسطينية وكتب قصيدة فلسطيت التي يقول فيها:
ديار السّلام، وأرض الهنا
يشقّ على الكلّ أن تحزنا
فخطب فلسطين خطب العلا
وما كان رزء العلا هيّنا
سهرنا له فكأنّ السيوف
تحزّ بأكباد ههنا
وكيف يزور الكرى أعينا
ترى حولها للرّدى أعينا؟
وكيف تطيب الحياة لقوم
تسدّ عليهم دروب المنى؟
بلادهم عرضة للضّياع
وأمّتهم عرضة للفنا
يريد اليهود بأن يصلبوها
وتأبى فلسطين أن تذعنا
لقد تعاقب على مصر الأخمينيون والبطالمة والرومان والساسانيون، وكل هؤلاء سبقوا العرب إلى مصر، فإلى أيهم ننتمي؟ وكيف نظل فراعنة في ظل هذا الاختلاط الذي استمر لآلاف السنين!
نحن عرب ليس لأننا نتكلم العربية، ولكن لأن علاقتنا بالفراعنة انقطعت تماما، قضايانا غير قضاياهم، وآمالنا غير آمالهم، وطبيعتنا ليست طبيعتهم، نحن لا نتكلم لغتهم ولا نعبد آلهتهم ولا نبي مبانيهم ولا نحنط موتانا، ونقتل الحشرات التي قدسوها، وفي الخامس والعشرين من يناير قام المصريون ليثبتوا أنهم لا يقبلون وجود الفرعون في مصر مرة أخرى خلاف المصريين القدماء، وأن المصريين الجدد لن يقدسوا الحاكم، ولن يؤمنوا بالملك الإله، ولن يقبلوا الظلم والسخرة والتهميش كما فعلت الأمة المصرية البائدة.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا