بحر البقر- د علاء عمر -كبسولة حضارة

 بقلم: د علاء عمر


من بين كل المجازر المروعة فى تاريخ البشر الحديث تطل مجزرة مدرسة بحر البقر على القمة ..

                            ******************

يهرول عذرا اشكول على الممر ، الرطوبة عالية و التنفس ثقيل إلا أن الحماسة تدفع به الى حالة من الخفة ، يصعد إلى الفانتوم المزينة بالنجمة السداسية ، يراجع الاحداثيات ، يناوشه شعور كاسح بأنه بطل ، يربت على صاروخه الموجه بأحكام و يضع قبلة على حمولة القنابل المعلقة أسفل الطائرة ، يرتفع عذرا بالطائرة على ارتفاع منخفض ، يتوغل فى دلتا مصر ، الوقت مازال مبكرا ، يمكنه رؤية الفلاحيين يقودون ابقارهم نحو الحقول ، يراجع الاحداثيات لمرة أخيرة ، ينظر عن يمينه ، ثم عن يساره ، السرب المكون من خمس طائرات فانتوم يصل وجهته ، السكون يخيم على كل شيء ، يطلق صاروخه ، ثم يفصل المتفجرات عن طائرته ، يأتيه الضجيج بعد قليل مكتوم ، كما لو كان زخات مطر فوق زجاج شرفته فى يوم بارد ، تتصاعد ألسنة اللهب ، تتسع ابتسامة عذرا ، يدور دورة أخيرة ليتأكد أن المدرسة تمت تسويتها بالأرض ، قبل أن يأخذ طريق العودة فى هدوء ..

                                   ***************

يربت ظهر زوجته فى قوة حنونة :

_ راحت علينا نومة يا سمية ، الواد هتفوته المدرسة ..

تقوم سمية متكاسلة ، تبتسم ، تطبع قبلة على خد زوجها : 

_ ما بلاش النهاردة يا محمد ، سيبه نايم و يبقى يروح بكرة ..

يضرب خدها فى رفق مبتسما :

_ ده الواد الحيلة اللى طلعنا بيه من الدنيا ، عاوزينه يبقى شاطر ، ربنا يجعل نصيبه أحسن من نصيبنا ..

تبتسم سمية ، تنهض و قد تحمست ، تقبل حسين الصغير ..

ممسكا بيد حسين نجله ، يسير محمد حسين بين الحقول مجدا ، يلقى التحيات و السلامات على كل من يقابل ، ينظر نحو حسين بين الحين و الآخر فيمنحه الصغير ابتسامة تنير الحياة ، كأن سماء روحه المعتمة يخترقها ضياء شهاب ..

يستقبله الحاج مبروك على الباب ..

_ خش يا حسين الحصة بدأت ..

يحتضن محمد حسين الحاج مبروك ، يؤكد له أنه سيحضر فرح ابنته مساء الغد ، يودع طفله ، بعد ثوان وهو يشق طريقه عائدا ، يأتيه الأزيز المكتوم ، يرفع بصره نحو السماء ، عدد من الطائرات تحلق على ارتفاع منخفض ، الأزيز يتعالي ،

تتسع ابتسامته ، أنهم طياروا الجيش المصري يتدربون ، تمضى الطائرات مبتعدة ، يلقى نظرة نحو المدرسة ، قبل أن يستكمل طريقه يشاهد الطائرات تعود فى قوس الأفق ، هذه المرة ينخلع قلبه لسبب لا يعرفه ، بدا السرب كجماعة من الغربان ، الأزيز يشبه النعيق ، ثم أظلم كل شيء ..

لا يدري محمد حسين اين هو ، يشعر بأن مطرقة تقصف رأسه ، بعد ساعة كان يفترش أرض الوحدة الصحية ، فى حجره شنطة يصبغها دماء ، كان هذا كل ما تبقى من نجله حسين ، و بعدها بعدة ساعات سيسلمونه حفنة من الأشلاء .. لن يكون متأكدا أنها تخص نجله ، إلا أنه سيدفنها على كل حال ..

                                **************** 

فى التاسعة و عشرين دقيقة من صباح الثامن من أبريل عام 1970 قصفت خمسة طائرات اسرا ئلية من طراز فانتوم الأمريكية مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية ..

كان القصف مكثفا حاسما ، و من بين 86 طفلا قتل 30 و أصيب 56 بجروح و مات مدرس و 11 موظف ..

من بين كل الجرائم شديدة الخسة و الندالة فإن مجزرة بحر البقر تأتى على رأس اللائحة ..

حسنا ..

انت تقوم بحرب استنزاف على مواقعنا العسكرية و تكبدنا خسائر فادحة ، فليكن ، سندمر لك مدرسة اطفال حتى تفكر الف مرة قبل أن تحاول مهاجمة قواعدنا خلف خط بارليف مرة أخري ..

كانت تضحية اطفال بحر البقر فارقة فى حياة مصر ..

لم تذهب أرواحهم الطاهرة هباء ..

بسببهم أنجزت مصر حائط الصواريخ الذي كان سببا رئيسيا فى حماية أهل مصر من هذا العبث لاحقا و بسبب رسالة من نجوا الإنسانية المدهشة لبات نيكسون زوجة ريتشارد نيكسون أوقفت أمريكا تزويد اسرا ئيل بأحدث طائراتها لفترة ردا على ما حدث و كان هذا كافيا لاستكمال حائط الصواريخ ..

لا انسي هذا اليوم ابدا و لن انساه ..

هم العدو .. فاحذرهم .. قاتلهم الله .. انا يؤفكون ..

سلاما على أرواح اطفالنا .. لان ما يحدث للبعض لا يسقط بالتقادم و لا يطويه النسيان ..

لأن ما حدث لأطفالنا سيتردد دوما صداه بضحكاتهم المغتالة فى خلود الآخرة ..

فلا نامت أعين الجبناء ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عشر مهارات للعلاقة الجنسية- د دعاء القويسني- كبسولة حضارة

الدراما لا تعرف الكتاكيت -خالد السيد علي - كبسولة حضارة

العلاقات السامة "toxic relationship "- سلمى سرحان -كبسولة حضارة